يصف كثرٌ لبنان بأنه دولة فاشلة، مع حكومة مركزية ضعيفة ومشلولة. على الرغم من أن انتخابات أيار (مايو) 2022 أتاحت لبعض وجوه المعارضة دخول الندوة البرلمانية، كانت نسبة 80 في المئة من المقاعد النيابية من نصيب الشخصيات التقليدية المسؤولة عن الأزمة السياسية والاقتصادية في لبنان. في الواقع، لم تتخطَّ نسبة الاقتراع في الانتخابات الأخيرة نحو 41 في المئة، ما يعكس الإحباط الواسع وانعدام الثقة بالنُخَب السياسية في البلاد.
من أكبر التحديات التي يواجهها لبنان حاليًا هو انهيار القطاع المصرفي. لقد اعتبر البنك الدولي أن تدهور قيمة الليرة اللبنانية والوضع الاقتصادي العام قد يكون ثالث أسوإ انهيار إقتصادي منذ القرن التاسع عشر، ويتسبب ذلك، منذ العام 2019، بتراجع قيمة الليرة اللبنانية إلى أدنى المستويات. تستمر التقلبات في القيمة، ويخوض المواطنون اللبنانيون معركةً يومية للحصول على أموالهم وشراء السلع الأساسية مثل المواد الغذائية والمحروقات، والتي ازدادت ندرةً بعد الاختلالات التي لحقت بسلاسل الإمدادات بسبب جائحة كوفيد-19، والحرب في أوكرانيا وانفجار مرفإِ بيروت في العام 2020.
في هذا السياق، يكتسي الطابع الخاص وغير المركزي للعملات الرقمية جاذبية كبيرة. فهذه العملات موجودة خارج إطار المنظومة المالية الرسمية وتزدهر في السوق السوداء التي تطبع معالم لبنان المعاصر، حيث تجري يوميًا عمليات صرف الدولار والليرة وفقًا لسعر صرف السوق، ولا تمتلك المؤسسات المصرفية أيّ إشرافٍ عليها. في أحياء بيروت الراقية، يشكّل تجار العملات الرقمية غير الشرعيين امتدادًا لأنظمة الصرف غير الرسمية، التي يُشار إليها عادةً بشبكات الحوالة، والتي تقبل النقود وتحوّلها إلى عملة رقمية تُحفَظ في محفظة رقمية، والعكس. حتى أنّ هناك صرّافَين آليين لعملة البيتكوين في منطقة الحمراء لتحويل النقود إلى بيتكوين، علمًا بأن الصرّافَين الآليين يُستخدَمان فقط في اتجاه واحد، أي إنه لا يمكن استعمالهما لسحب أوراق نقدية، ما يحد من أهميتهما عمومًا للبنانيين العاديين الذين يجب أن يمتلكوا المعرفة التقنية للتداول بالعملة الرقمية بأنفسهم أو أن يعتمدوا على شبكات تبادل شخصية. كل ما يتطلبه شراء العملة الرقمية ” USD Tether” وبيعها مقابل الدولار هو تنزيل تطبيق على الهاتف الخلوي وإدخال معلومات الاتصال بالشخص المعني لتسهيل التبادل.
لا تقتصر هذه الظاهرة على لبنان، فالأشخاص في مختلف أنحاء العالم، بما في ذلك فنزويلا، تحوّلوا نحو العملة الرقمية في مراحل التضخم الشديد. لكن لبنان شهد صعود صناعة موازية قائمة على عمليات تعدين العملة الرقمية على نطاق صغير في أماكن حيث يمكن استخدام موارد الطاقة المتجددة. وتشمل هذه الأماكن قرىً تعتمد على الطاقة الكهرومائية في جبال الشوف أو الألواح الشمسية قرب بعلبك، نظرًا إلى أن تشغيل المولّدات لتعدين العملات الرقمية، بسبب سوء إدارة الشبكة الكهربائية في لبنان، هو عملية غير مربحة على الإطلاق في الأماكن الأخرى في البلاد.
تعتمد عملات رقمية كثيرة على بروتوكولِ إثبات العمل للحدّ من الإمدادات وتحفيز الدعم لشبكة البلوك تشاين، ما يعني أن تحويل المدخلات إلى العملة الرقمية ذات القيمة المُتَصَوَّرة يتطلب إجراء عمليات مكثّفة من الناحية المادية. يقتضي التعدين إدراج العديد من المدخلات الأساسية في العملية، بما في ذلك سعر الطاقة، وكيفية توليدها، ودرجة الحرارة، والقيود القانونية ورأس المال البشري. في حالة لبنان حيث الاتجار بالعملات الرقمية هو عملية غير قانوينة، لا إنفاذ للقوانين في هذا المجال، وتزدهر هذه التجارة فيما لا تزال الدولة منشغلة بالمشكلات الاقتصادية الأكثر إلحاحًا.
الطاقة هي السبب الرئيس خلف ازدهار تعدين العملات الرقمية في جبال الشوف. فهي المنطقة الوحيدة في لبنان التي تحصل على التغذية الكهربائية بوتيرة مستقرة على مدار الساعة من خلال نظام الطاقة الكهرومائية التي يؤمّنها نهر الليطاني. لذلك تحوّلت هذه المنطقة إلى مركز لمختلف الصناعات إلى جانب تعدين العملات الرقمية، فيما تعاني باقي المناطق اللبنانية من التقنين الشديد في التيار الكهربائي، وتعتمد إلى حد كبير على المولّدات غير الموثوقة والباهظة الكلفة.
صعود “بلدات التعدين” في الشوف يقف وراءه مبتكرون اجتماعيون واسعو المعرفة يسعون إلى الاستفادة من توافر التيار الكهربائي بكلفة زهيدة ووتيرة ثابتة. مثلًا، يتولى “أبو ضاهر” تنظيم إحدى كبريات عمليات التعدين صغيرة النطاق، وهو مُبتَكِرٌ نشأ في المنطقة وتلقّى تحصيله العلمي في الجامعة الأميركية في بيروت. يقع مقر عملياته في إقليم الخروب في بلدة مختلطة مسيحية-مسلمة في قضاء الشوف.
وقد توسّعت عملياته التي انطلقت قبل عامَين، فباتت توظّف نحو 40 شخصًا وتضم 400 مستثمر، مع شبكة معقّدة من التبادلات التي تتيح له نقل مبالغ كبيرة بالدولار والليرة و”USD Tether” وغيرها من العملات الرقمية. يتقاضى جميع موظفيه راتبًا رسميًا يتراوح من 800 إلى 4000 دولار أميركي في الشهر، تُدفَع بالدولار الأميركي أو بالعملة الرقمية ” USD Tether”، وهو مبلغ أعلى بكثير مما تؤمّنه مختلف الفرص الاقتصادية الأخرى المتاحة حاليًا في المنطقة. يتقاضى الحدّاد الذي يعمل لدى “أبو ضاهر”، وهو الأدنى راتبًا بين الموظفين، أجرًا أعلى بـ 26 مرة من الحد الأدنى للأجور في لبنان.
في جانبٍ مهم، ينتمي “أبو ضاهر” إلى المجتمع المحلي ويعتبر أن عملياته هي وسيلة لتأمين المداخيل للأشخاص فيما تساهم أيضًا في التنمية الاجتماعية في المدى الطويل. يضع “أبو ضاهر” تصوّرًا لمنظومة إيكولوجية مستدامة طويلة الأمد في مجال تعدين العملات الرقمية في قضاء الشوف، بما يتيح استخدام الحرارة التي تولّدها حواسيب التعدين بمثابة مصدر حراري أوسع نطاقًا. قد يشكّل ذلك بديلًا من إحراق الوقود الباهظ الكلفة أو من قطع الأشجار خلال فصل الصيف، وهي مشكلة مُتفاقمة في مختلف أنحاء لبنان حيث يبحث الأشخاص في أيام البرد الشديد عن مصادر تدفئة خلال انقطاع التيار الكهربائي.
صحيحٌ أن هوامش الأرباح التي يحققها تعدين العملات الرقمية على نطاق صغير مُتقلّبة وفقًا لأداء السوق، وضئيلة مُقارنةً بالرواتب قبل الأزمة، إلّا أن القدرة على تأمين أي نوع من الأصول الخارجية في خضم الأزمة الراهنة تكتسي قيمة كبيرة. وفي حين أن معظم عمليات تعدين العملات الرقمية الواسعة النطاق تُجرى بطريقة فردية جدًا ولا تنطوي على احتكاكٍ كبير بالمجتمعات المحلية، فإن الطابع الاجتماعي للعمل الذي يقوم به “أبو ضاهر” هو ما يميّز عملياته عن نحو اثنتَي عشرة وكالة أخرى للعملات الرقمية في لبنان. فقد طُرِد المعدّنون القادمون من خارج المنطقة الذين كانوا يستخدمون الشبكة الكهربائية بطريقة غير قانونية، ونفّذت الأجهزة الأمنية اللبنانية مداهمة في جزين استهدفت العاملين في تعدين العملات الرقمية في ربيع 2022.
مما لا شكّ فيه أن تعدينَ العملات الرقمية باهظ الكلفة على صعيدَي الطاقة والتلوّث. عالميًا، تتسبّب العملات الرقمية بتوليد كمية هائلة من ثاني أوكسيد الكربون. تنتج بيتكوين، وهي الأكثر شعبية بين العملات الرقمية العالمية، كمية من ثاني أوكسيد الكربون تُضاهي ما تنتجه نيوزيلندا. ولكن المجتمعات المحلية في الشوف، ونظرًا إلى اعتمادها على الطاقة الكهرومائية المستقرة، تقدّم لمحة نادرة عن قدرة المجتمعات التي يمكنها الوصول إلى الطاقة المستدامة، من مياه وشمس ورياح، على الابتكار في مجال تعدين العملات الرقمية لتقديم قيمة بديلة في سياق انهيار الدولة، بما يتيح تأمين سبل العيش وتعزيز قدرة المجتمع على الصمود.
يبقى أن نرى ما إذا سيكون هذا المستقبل البديل المحتمل مثاليًا أم بائسًا، ولكن استخدام العملات الرقمية، لا سيما التعدين، يحجز مكانًا متزايدًا له في سبل العيش في البلدان التي تشهد انهيارًا اقتصاديًا سريعًا. ولبنان طائرٌ صغيرٌ مغرّد في منجم تعدين العملات الرقمية على نطاق صغير في البلدان الهشّة أو الضعيفة، لا سيما في المناطق التي يمكنها استخدام الطاقة الكهرومائية أو الشمسية.
اضف تعليقا